الحَدِيثُ عَنِ العُظَمَاءِ حَدِيثٌ لاَ يُمَلُّ، وَمَجْلِسٌ لاَ تَعْرِفُهُ السَّآمَةُ، كَيْفَ إِذَا كَانَ المُتَحَدَّثُ عَنْهُ هُوَ حَبِيبَ رَبِّ العَالَمِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالحَدِيثُ عَنْهُ حَدِيثٌ تَشْتَاقُ لَهُ النُّفُوسُ وَتَطْرَبُ لَهُ القُلُوبُ وَتُصْغِي مَعَهُ الآذَانُ، كَيْفَ لاَ وَقَدْ قَذَفَ اللهُ مَحَبَّتَهُ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ حَتَّى تَغَلْغَلَتْ فِي وِجْدَانِهِمْ وَجَرَتْ بِهِ عُرْوَتُهُمْ، وَاسْتَقَرَّتْ سُوَيْدَاءُ قُلُوبِهِمْ.
وَإِنَّ مِمَّا فَطَرَ اللهُ بِهِ النُّفُوسُ البَشَرِيَّةُ أَنَّهَا إِذَا أَحَبَّتْ شَيْئًا أَحَبَّتْ رُؤْيَتَهُ لَيْسَ لِمَرَّةٍ بَلْ مَرَّاتٍ وَكَرَّاتٍ فَكَمْ قَالَ مِنْ قَائِلٍ مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ: "لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنِيَّ مِنْهُ"!
فَيَا مَنْ حُرِمْنَا فِي الدُّنْيَا رُؤْيَتَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَا مَنْ قَدَرُنا أَلاَّ نُكحِّلَ الأَعْيُنَ بابْتِسَامَتِهِ وَالتَّلَذُّذِ ببشاشته ، تعالوا نطربُ الأسماعَ بصِفَاتِهِ الخِلْقِيَّةَ الَّتِي وَصَفَهَا لَنَا مَنْ رَآهُ:
وَصَفُوا لَنَا جِسْمَهُ وَرَسْمَهُ بِكُلِّ دَقَائِقِهِ وَتَفَاصِيلِهِ حَتَّى إِنَّ الوَاقِفَ عَلَى نَعْتِهِمْ لَكَأَنَّمَا يَرَى مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَا آذَانُ أَصْغِي، وَيَا قُلُوبُ تَجَمَّعِي، وَيَا نُفُوسُ تَشَوَّقِي لِحُرُوفٍ قَلِيلَةٍ مِنْ وَصْفِ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَقَدْ أَعْطَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- نَبِيَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَالَ الخُلُقِ وَجَمَالَ المَنْظَرِ، حَتَّى تَلَأْلَأَتْ بِذَلِكَ وَسَامَتُهُ وَتَأَلَّقَتْ قَسَامَتُهُ وَلَمَعَتْ زَهْرَتُهُ.
فَكَانَتِ العُيُونُ لاَ تَمَلُّ مِنْ طَلْعَتِهِ، وَلاَ تَكَلُّ مِنْ طَلَّتِهِ، إِذَا غَابَ سَوَادُهُ عَنْ أَصْحَابِهِ اشْتَاقَتْ أَبْصَارُهُمْ لِرُؤْيَتِهِ، وَحَنَّتْ قُلُوبُهُمْ لِلْأُنْسِ بِهِ، كَمْ قَالَ قَائِلٌ مِمَّنْ رَآهُ وَاللهِ: "مَا رَأَيْتُ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ".
بَلَغَ العُلَى بِكَمَالِهِ *** كَشَفَ الدُّجَى بِجَمَالِهِ
حَسُنَتْ جَمِيعُ خِصَالِهِ *** صَلُّوا عَلَيْهِ وَآلِهِ
رَأَتْهُ أُمُّ مَعْبَدٍ عَجُوزٌ أَعْرَابِيَّةٌ، فَقَالَتْ تَصِفُهُ -وَهِيَ لاَ تَعْرِفُهُ-: "رَأَيْتُ رَجُلاً ظَاهِرَ الوَضَاءَةِ، مَلِيحَ الوَجْهِ وَسِيمًا قَسِيمًا، إِنْ صَمَتَ فَعَلَيْهِ الوَقَارُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ عَلاَهُ البَهَاءُ، أَجْمَلَ النَّاسِ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْسَنِهِمْ مِنْ قَرِيبٍ".
وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي *** وَأَكْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ
خُلِقْتَ مُبَرّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ *** كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ
عِبَادَ اللهِ: الوُجُوهُ تُخْبِرُ بِمَا وَرَاءَ أَصْحَابِهَا، وَرُبَّمَا عَرَفَ النَّاسُ صِدْقَ الرَّجُلِ وَخُلُقَهُ مِنْ خِلاَلِ التَّفَرُّسِ فِي قَسَمَاتِ وَجْهِه، وَقَدِيمًا قَالَتِ العَرَبُ: "الوُجُوهُ مَرَايَا تُريكَ أَسْرَارَ البَرَايَا"!
رَأَى وَجْهَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ عَنْهُ: "هَذَا وَجْهٌ مُبَارَكٌ".
وَحِينَمَا قدم النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المَدِينَةَ انْجَفَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَأَسْرَعُوا، وَكَانَ فِيمَنِ انْجَفَلَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلامٍ أَحَدُ أَحْبَارِ اليَهُودِ، قَالَ عَبْدُاللهِ: "فَلَمَّا تَأَمَّلْتُ وَجْهَهُ وَاسَتَثْبَتَّهُ عَلِمْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ".
وَصَدَقَ القَائِلُ:
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيَّنَةٌ *** كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تَأْتِيكَ بِالخَبَرِ
كَانَ وَجْهُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَلَأْلَأُ إِشْرَاقًا وَيَتَأَلَّقُ صَفَاءً، قَالَ عَنْهُ البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا".
وَيَقُولُ أَبُو الطُّفَيْلِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "كَانَ مَلِيحَ الوَجْهِ"، وَكَانَ وَجْهُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الاسْتِدَارَةِ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى الطُّولِ، وَكَانَ مَعَ اسْتِدَارَتِهِ وَجَمَالِهِ، إِذَا سُرَّ يَتَلَأْلَأُ بَهَاءً وَنُورًا".
ويَقُولُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، كُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ".
أَمَّا عَيْنَاهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُمَا سِرُّ جَمَالِهِ وَوَسَامَتِهِ، فَقَدْ كَانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَشْكَلَ العَيْنَيْنِ - وَالشَّكْلَةُ حُمْرَةٌ يَسِيرَةٌ فِي بَيَاضِ العَيْنَيْنِ - وَكَانَتْ هَذِهِ خَصْلَةً مَحْمُودَةً مَحْبُوبَةً جِدًّا عِنْدَ العَرَبِ.
وَكَانَ أَيْضًا أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ، وَلَيْسَ بِأَكْحَلَ، أَدْعَجَ العَيْنَيْنِ؛ أَيْ: شَدِيدَ سَوَادِ العَيْنَيْنِ، وَكَانَ أَهْدَبَ الأَشْفَارِ؛ أَيْ: طَوِيلَ الحَوَاجِبِ، وَكَانَ أَقْنَى الأَنْفِ؛ أَيْ: طَوِيلَ الأَنْفِ مَعَ دِقَّةٍ فِي أَرْنَبَتِهِ، وَكَانَ جَبِينُهُ وَاسِعًا وَمُسْتَوِيًا.
أَمَّا فَمُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ كَانَ ضَلِيعَ الفَمِ، حَسَنَ الثَّغْرِ، مُفْلَجَ الأَسْنَانِ، وَالفَلَجُ: فُرْجَةٌ بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرَّبَاعِيَّاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ صِفَاتِ الجَمَالِ وَقَدْ جُمِّلَ وَجْهُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِلِحْيَةٍ كَثَّةٍ يَعْلُوهَا الوَقَارُ وَالبَهَاءُ.
وَكَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- يَعْرِفُونَ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَلاتِهِ السِّرِّيَّةِ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَثَّ اللِّحْيَةِ